الأربعاء، 2 سبتمبر 2009

الإخوان المسلمون بين الثوابت والمتغيرات


غبار المعارك لا يجب أن يحجب رؤية المقاتلين، وإلا تحول الرمي والطعن إلى رفقاء السلاح، وبدلاً من التقدم إلى الأمام قد نتقهقر إلى الخلف، ويتمزق الصف الواحد، ويصب الفعل على تنوعه ضد الأهداف المنشودة.
والمتأمل في سلوك المعارضة المصرية على خلفية التحركات الأخيرة، سيتوقف حتماً أمام ظاهرة معيبة تمثلت في تصريحات البعض وتلميحاتهم عن مواقف القوى الأخرى، وكان حظ الإخوان المسلمين هو الأوفر من الإنتقاد والتجريح.وقد يكون مرجع هذا السلوك إلى الإحساس الزائف بنشوة النصر المتولد عن تمكن قوى المعارضة من التعبير عن ذاتها في تظاهرات رمزية فرضت نفسها في الشارع المصري أخيراً، وبشرت بممارسات ديمقراطية مستقبلية على أرض الواقع.
ولكن على فصائل المعارضة أن تستوعب عدة حقائق لتتمكن من قراءة الواقع والتعامل معه بانضباط المجاهد، وحكمة الوطني الشريف الذي يرى بوضوح أهدافه المنشودة، ويأبى أن يسل سيفه لمعارك جانبية موهومة تستنفذ جهده وطاقته.
وبعيداً عن انفعالات العواطف وتوتر الهتافات، يجب أن نتفق على معطيات الواقع المصري ومنها:
· أن الإصلاح في مصر ليس سهلاً أو قريباً، ولن تحسمه تظاهرات رمزية، ويحتاج إلى استراتيجية واضحة بعيدة المدى، يتوفر لها التدريجية والواقعية بالإضافة إلى الإجماع الوطني، كضرورة لتحقيق الإصلاح المنشود والتخلص من الواقع المؤسف الذي يشوه الوجه الحضاري لمصر، ويحط من كرامة المصري.
· على قوى المعارضة أن تتجاوز حدود الفصيل الوطني، والرؤية الفكرية الخاصة إلى رحابة الهدف القومي المشترك، ويتحقق هذا بالحركة الموحدة الراشدة من المنطلقات المتفق عليها بين الجميع، والتي تمثل أجندة وطنية واحدة.
· أن الإغراق في الخصوصية، ومحاولة تحقيق مكاسب لفصيل على حساب آخر جهل بأبعاد القضية، وقراءة خاطئة للواقع الذي يفرض الآن قبل أي وقت مضى وجوب التوحد على قضية الإصلاح، والاجتماع تحت العلم المصري وحده دون سواه من الرموز والشعارات.
· أن إضعاف أي فصيل وطني، وإثارة الشبهات حول موقفه في هذه المرحلة، إضعاف لكافة الفصائل، وتجديف عكس اتجاه التيار الشعبي، وما يمكن أن يحققه من إرضاء ذاتي، لن يكون له تأثيره الإيجابي على القضية الوطنية.
· أن حجم العمل الوطني الذي تطمح إليه قوى المعارضة المصرية لن يتوقف عند حدود الإصلاح الداخلي فحسب، فالساحة العربية تفتقر إلى الدور المصري لتجاوز المحنة التاريخية، كما أن حجم التهديد الخارجي، والاستئساد الصهيوني بالمنطقة يلزم كل وطني مخلص أن يتجرد لتحقيق المجتمع المدني المؤسسي الكريم.
· أن أدب الحوار الوطني يجب أن يتحقق بين أطياف المعارضة للتحاور في نقاط الاختلاف حول الماضي، أو التوجهات الخاصة، والهويات الحزبية، لنتمكن من التحرك الواعي إلى المستقبل، وأن هذه الرؤى الخاصة، أو الممارسات السابقة قضايا فرعية لن نتفق عليها اليوم أو غداً، ومحاولة الفصل فيها اليوم وإثارتها غباء وطني يجب أن يترفع عنه الجميع.
الإخوان والمعارضة
الإخوان المسلمون التي يصفونها اليوم بالمحظورة، قطاع عريض من الشعب المصري، يمثل الشعب المصري تمثيلاً أكثر واقعية لأنه يتمدد عبر فئات الشعب المختلفة، بداية من المواطن المصري العادي، مروراً بالطبقة الوسطى الكثيفة، متوجاً بالنخب الفكرية والعلمية في كافة المجالات الحياتية المتعددة.
وإذا كان هذا هو حال كل قطاع في فصائل المعارضة الأخرى، إلا أن الحضور أو التمثيل الشعبي داخل الجسد الإخواني يوفر تميزاً خاصاً، ويشكل قوة لها أثرها الفاعل في الشارع المصري، ولها حساباتها خاصة عند السلطة الحاكمة، ولها قدرها في ميزان القوى العالمية المتربصة.
والإخوان لم يطلبوا تميزاً بين فصائل المعارضة المصرية، ولم يحقروا من شأن أحد في هذه الفصائل، بل على العكس تماماً، كانوا دائماً هدفاً لألسنة وأظافر السلطة الحاكمة الحادة، سواء من المنتسبين إلى حزبها علناً، أو العاملين لحسابها وإن علقوا شارة المعارضة.
وأثبتت الممارسات الأخيرة، في الشارع المصري، أو منتديات المعارضة وأدبياتها أنها مازالت تتعامل أحياناً مع الإخوان المسلمين بأسلوب لا يتوافق مع الرؤية الوطنية الصحيحة لطبيعة المرحلة التاريخية والتي نرى أنه من الواجب أن نعرِّف ببعض معطياتها:
أولاً: أن الإخوان المسلمون في مصر هم الفصيل الأكبر شعبية وتنظيماً وقدرة على قيادة الشارع المصري، وقيادته لتحقيق الحلم الوطني، وتتسم في ذات الوقت بالتواضع وسعة الصدر، والصبر على الطعن الأحمق واحتسابه عند الله تعالى.
ثانياً: أن الإخوان المسلمون تقدموا للمعارضة المصرية بعدة اطروحات ومبادرات للعمل الوطني المشترك، وفتحت الحوار مع كافة الفصائل لتنسيق الجهود نحو صياغة أجندة وطنية موحدة، وترسيم استراتيجية مشتركة للإصلاح والضغط على السلطة الحاكمة لنيل الحقوق المدنية والإنسانية للشعب المصري، وأجهضت غالبية هذه الجهود لهيمنة الحزب الحاكم على خيوط التحريك السياسي.
ثالثاً: أن الإخوان المسلمون يشاركون بالفعل في مجهودات الإصلاح النابضة في الشارع المصري، ولهم حضورهم التأسيسي في الكثير من المواقع النابضة بالحياة فوق أرض الوطن.
رابعاً: أن تاريخ الإخوان المسلمين خير شاهد على مواقفهم من الإستحقاقات الشعبية التي اغتصبتها السلطة العسكرية في مصر، ولعل دماء شهداءهم الأبرار، وتضحياتهم الجسام تكون خير شاهد عدل لكل متأمل منصف في تاريخ مصر الحديث.
خامساً: أن الإخوان المسلمون يرحبون بكل مخالف لهم في الرأي، لمشاركتهم هموم الوطن، ولا يجدون أدنى حرج في التعاون مع أي فصيل معارض، ولم يخدش هذا الانفتاح المغايرة في الفكر أو الدين مادامت المشاركة لصالح المجموع الوطني، ويؤكد هذا اعتمادهم مبدأ المواطنة كأساس للتعاون بين جميع المصريين.
خصوصية الإخوان
إن المزايدة على موقف الإخوان المسلمين من قضية الإصلاح لا يمكن تفسيره إلا بأنه سذاجة فكرية، أو خصومة لدودة، لأن الفكرة واضحة بجلاء في تاريخهم وأدبياتهم، كما هي ملموسة في خطواتهم وتحركاتهم.
وإذا كان صوت المعارضة ارتفع مؤخراً في السماء المصرية للمطالبة بالحقوق الشعبية، فإن الإخوان يوقنون بأنهم المستفيد الأول من هذه الحقوق، وأن قوة فصائل المعارضة لا تضعف الإخوان، وإنما تدعم رؤيتهم في وجوب التغيير القاعدي الذي يتيح للإنسان الحياة الكريمة التي تمكنه من الاختيار الحر لدينه وتوجهه الحياتي.
ولكن تبقى للإخوان خصوصيات يجب أن يراعيها المحلل لمواقف الجماعة من داخلها أو خارجها على السواء، ومن هذه الخصوصيات:
الخصوصية الأولى:
أن للإخوان منهج للتغيير مستمد من رؤية وسطية للإسلام، تربوا وتبايعوا عليه، وهو غير قابل للتدخل البشري في خطوطه العامة منذ قرأه الإمام المؤسس حسن البنا ـ رحمه الله ـ وقدمه للمسلمين عامة وللإخوان خاصة.
ويرجع هذا الثبات إلى المرجعية الإسلامية للجماعة والتي تحدد الغاية والهدف، كما تلزم بالمنهج والوسيلة.
ويقدم الإمام المؤسس حسن البنا ـ رحمه الله ـ مهمة الإخوان وما يريدون في تحديد تام ووضوح ينفي أي لبس.
(نحن نريد:
الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، والحكومة المسلمة، والدولة التي تقود الدول الإسلامية ، وتضم شتات المسلمين وتستعد مجدهم ، وترد عليهم أرضهم المفقودة، وأوطانهم المسلوبة، وبلادهم المغصوبة، ثم تحمل على الجهاد ولواء الدعوة إلى الله، حتى تسعد العالم بتعاليم الإسلام)
فالإخوان يرفضون تغيير الطفرة، أو طلاء المجتمع بقشرة إسلامية زائفة، ولا ينتهجون القفز الزمني بالثورات والانقلابات، أو الاندفاعات الغاضبة، ولا يعنيهم اسم الحاكم قدر ما يعنيهم قانون الحكم، ولا يشغلهم من هو الحزب الحاكم قدر ما يشغلهم توجه الحكومة وهوية الدولة.
فالسلطة وفق الرؤية الإسلامية وسيلة وليست غاية، أداة وليست ثمرة أو مغنماً، أداءً مخلصاً من أجل هذا الشعب وليست تميزاً فوق هذا الشعب.
ولعل الفهم الصحيح لرؤية الإخوان يفسر سر سياسة النفس الطويل، والصبر على أذى السلطات الغاشمة، لأن إزاحة طغمة حاكمة شيء، وإقامة مجتمع مؤمن بحقه الإنساني الأصيل في الحياة الحرة الكريمة، واستعداده للتضحية من أجل هذه الحياة شيء آخر. والبون شاسع بين الهدفين، بما يكفي لنفي التشابه أو الخلط بينهما.
ولعل هذا يفسر أيضاً للناس سر عدم تعجلهم للتغيير، أو تضييعهم ـ من وجهة نظر الآخرين ـ لما عدوه بعض الفرص التاريخية للحكم، أو التحكم في خصومهم الألداء.
إذاً فالإخوان لا يسعون لتغيير السلطة فحسب، وإنما يجاهدون لتفعيل الشعب
وهذه الرؤية الإخوانية هي الفهم الوسطي للأطر السياسية العامة في الإسلام.
فحجم الكراهية المتفجر في صدورنا من السلطة الغاشمة التي سلبت الشعب حقوقه لأكثر من نصف قرن من الزمان لا يجب أن يكون المتحكم الوحيد في زاوية الرؤية الشعبية، لأن تغيير السلطة وحده لا يضمن الحياة الكريمة، والنظام المدني الراقي لا يكفي لحمايته الدستور والقانون، ويبقى الضمان الوحيد في الشعب اليقظ الواعي بحقوقه.
إن الشعب الغاضب فقط لن يتمهل لاستيعاب الحقائق مادام مقتنعاً بأن راحته في التخلص من الوجوه الكريهة التي احتقرته وألجأته الصمت والبقاء خارج دائرة الفعل والحركة هذه الحقبة الزمنية.
لذا على المعارضة المصرية أن تستوعب هذه الحقيقة، وتسمو فوق الحركة العاطفية لتسمح للفعل العقلاني بالمرور في مجراه الطبيعي.
ولا يعني هذا أن الإخوان يرحبون ببقاء السلطة المتفردة بالحكم، لأنهم ببساطة أكثر المصريين تضرراً من بقائها وهيمنتها على مؤسسات الدولة، وإنما ينبه الإخوان على أهمية الاتفاق على أولويات الحركة الوطنية التي سينطلق منها صياغة مستقبل مصر الحديثة.
وبقدر أهمية هذه الحقيقة لقوى المعارضة، تتضاعف أهمية جلائها في قلب وعقل الصف الإخواني، الذي عليه أن يقتنع بأن قيادته لا تدفع به لمجرد تغيير السلطة، وإنما توجهه لأمانة القيادة الشعبية، وأن معركته الحقيقية في الشارع المصري وليست مع السلطة الحاكمة، وأن التفاف الجماهير حول الفكرة الإسلامية، وقناعتهم بأنها الحل الناجع للأزمة المخزية التي يعانون منها، وأن الاطمئنان إلى هوية الدولة وتوجه الحكومة ودستورها الحاكم بعد التغيير أهم من التغيير ذاته.
والإخوان يهدفون بتحريك الصف الإخواني إلى تفعيل الشارع المصري، ولا تعتبر حركة الصف الإخواني بديلاً أو نيابة عن جماهير الشعب المصري.
وهو ما يفسر حكمة الإخوان في التعامل مع الأحداث دون تأثر بضغوط فصائل المعارضة المحرضة والمستفزة أحياناً، أو الضغوط الداخلية من صفوف الإخوان والتي تستعجل التحرك في اتجاه التغيير بطريقة جماعات المعارضة الصغيرة، وذلك لسوء قراءة معطيات الواقع، أو لوقوعها تحت تأثير العاطفة، أو الغيرة من حركة المعارضة مع ثبات الإخوان حسب ما يبدو من ظاهر الأمر.
فالإخوان أعقل من أن يتورطوا في مواجهة بغير استعداد، أو الفرحة بكسب مواقف على حساب الثوابت المستقاة من الشريعة الغراء التي تبايع الإخوان على انتهاجها ونصرتها.
الخصوصية الثانية:
أن حركة الإخوان في الشارع المصري تغاير تمام المغايرة حركة قوى المعارضة الأخرى لعدة عوامل منها:
§ أن رد الفعل الحكومي من حركة الإخوان المسلمين في الشارع المصري سيكون حتماً عنيفاً، وهو تفسير طبيعي لموقف السلطة التي ترفض الاعتراف بوجود الإخوان، بل وتنفي أن في مصر ما يسمى بالإخوان المسلمين، ويحرص الخطاب الحكومي ـ الناطق باسمها أو وسائل إعلامها ـ على وصف الإخوان بالجماعة المحظورة.
§ خلفيات الفعاليات الشعبية المنتفضة في أكثر من بقعة جغرافية ـ في العالم العربي أو شمال آسيا تشكل مصدراً متجدداً للقلق الحكومي، ويعلل الهلع الحكومي من أي تجمع شعبي ـ حتى لو كان جنازة ـ (جنازة الفنان أحمد زكي)، ويبرر الحرص على التواجد الشرطي المكثف إلى حد المبالغة المثيرة أمام أعداد قليلة من المواطنين العزل من أي سلاح سوى الكلمة المنطوقة أو اللافتة المرفوعة.
§ حالة الاحتقان أو الغليان الكامنة في الشارع المصري، وارتعاب السلطة من انفجارها بمجرد التلامس مع قيادة جريئة، تلزم السلطة المهيمنة الحذر من فتح أي ثقب في جدارها التي حبست وراءه حقوق الشعب لأنه سيكون بمثابة النقب في قلعة الدكتاتورية الحصينة.
§ رصيد الإخوان كقوة لها قبولها عند المواطن المصري، وقدرتها التنظيمية على التجميع والتحريك بأعداد كبيرة، وفي التوقيتات التي تريدها يفرض سيناريو وحيد لا يسمح باحتمالات متعددة، أو بدائل أخرى أمام السلطة لمواجهة حركة الإخوان، والحيلولة دون حشدهم في الشارع المصري.
§ أن حركة الإخوان في الشارع المصري يجب أن تكون مدروسة بحسابات دقيقة، وبأسلوب تصاعدي، وبخطاب منضبط وواضح وصريح، حركة عاقلة تتميز بالقوة وتتحلى بالشجاعة.
وتلك الحركة الآمنة هي العاصم الوحيد من التورط في فعل حماسي أرعن يلقي بالصف الإخواني في طاحونة الدولة البوليسية الرهيبة التي لن تتورع عن أي فعل أحمق للحفاظ على السلطة.
والتعويل على الرأي العام، أو القوى العالمية ضرب من الوهم، فالقوى العالمية حددت موقفها سلفاً من الإخوان وبالتحديد منذ مؤتمر فايد سنة 1948.
وإن كان هذا لن يمنعها من استغلال الهمجية البوليسية للابتزاز والتركيع والادعاء الكاذب بالاهتمام بنشر الديمقراطية، وحماية حقوق الإنسان. كما أن التعويل على الشارع المصري لن يكون صواباً، لأن استقراء الأحداث، يؤكد أن رد الفعل الجماهيري لن يكون مؤثراً، لأنه مازال في طور الاحتباس الصدري الذي لا يغادره إلا في زفرة ضيق، أو حديث نفس غاضبة.
فالمواطن المصري يعاني أثر الحرمان السياسي، وقهر الأحكام العرفية، ويجهل الكثير من أبنائه أن لهم حقوقاً مدنية واجتماعية ومواطنية وإنسانية، وأن الكثير أيضاً من أبناء هذا الشعب عاشوا وماتوا دون أن يمارسوا هذه الحقوق، وأن هناك جيلاً آخر قارب أوشك أن يدفن في التراب الوطني ولم ينعم بها فوقه.
كل هذا وغيره من شأنه تخليق هاجس قوي لدى السلطة الحاكمة من حركة الإخوان في الشارع المصري.
وتظاهرة الأحد 27/3/2005 ـ مع رمزيتها بالنسبة للتواجد الإخواني ـ تؤكد أن النظام لن يسمح للإخوان بالتظاهر في الشارع ـ خاصة الأماكن الكثيفة سكانياً ـ ليقينه بأن الإخوان هم القناة الآمنة لتدفق التيار الشعبي.
فالسلطة تسمح بل وقد تشجع التظاهرات الصغيرة التي تنبض في الشارع المصري، والتي تنظمها بعض رموز النخبة الوطنية، وتتجاوز عن لهجتها الخطابية الحادة، وانتقادها المثير للسلطة والقيادة السياسية، لأنها فقيرة إلى هذه المظاهر التعبيرية الديمقراطية لتجميل وجهها الشائه، واستغلالها لإيهام العالم بأن في مصر ديمقراطية حقيقية تسمح بتعدد الآراء، وتتيح حرية التعبير.
ولذلك فإن أهم ثمار تظاهرة الأحد 27/3/2005 فضح السلطة الحاكمة في مصر، وإظهار حقيقتها الديكتاتورية، وإصرارها على وأد كل تحرك مؤثر في الشارع المصري، وعدم ممانعتها في ممارسة لعب دور الحكومة البوليسية أمام العالم علناً من أجل البقاء في السلطة دون أدنى اعتبار لحقوق الشعب أو سمعته العالمية.
الخصوصية الثالثة:
أن حركة الفرد تختلف عن حركة الجماعة، وأن حسابات الفئة القليلة تختلف عن الجماعة التي تتمتع بتمدد جماهيري عبر مساحة الوطن، وأن الفرد الذي يمثل نفسه يمكنه أن يخلع ثيابه في ميدان عام ويتصرف وفق ما يحلو له، أما الجماعة فحركتها محكومة بصالح أبنائها، وأمانة مسئولية القيادة تقتضي الإعداد الجيد، والدراسة الواعية قبل القرار والخطوة.
وإذا كان الإسلام يحفزنا على الإنكار على الطغاة، فيعد من يأمر السلطان الجائر بالمعروف وينهاه عن المنكر بمنزلة سيد الشهداء حمزة إن قتلته اليد الجائرة.
فإنه ليس من الصواب إسقاط النص النبوي على الجماعة، فهو نص يخاطب الفرد المسلم، وعمل يرغب فيه الفرد المسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله"
فالتوجيه النبوي الشريف إلى رجل وليس إلى جماعة أو أمة، رجل يقف بشجاعة ليضرب المثل في إعلان الحق، ليكون قدوة للجماعة المؤمنة، فإن قتل كان دمه ثمناً لإحياء قيم الإسلام التي حجبها الطاغية، ودفع المجتمع إلى الحركة الواعية الرافضة لتجاوز منهج الله.
فالإسلام يحض الفرد على الفعل، ويحفزه بدرجة الشهداء عند الموت، ولكنه لا يجيز ذات الفعل للجماعة التي يتربص بها أعداءها لفرص التشويه والاستئصال.
ولذلك فإن حسابات المواقف الإخوانية وتقييمها، لا يجب أن يقفز فوق هذه الخصوصيات، أو يتجاهل معطيات الواقع، وإنما يجب أن يكون منصفاً وعادلاً وحذراً من الإساءة لقوة جماهيرية لها تاريخها الناصع، وجهادها المشرف، وتضحياتها الجسام، من أجل استحقاقات هذا الشعب، ورفعة هذه الأمة.

الاثنين، 31 أغسطس 2009

الشورى في الإسلام بين الواقع والمأمول


أولا : الشورى فقهاً ومفهوماً
فى بداية الحديث عن الشورى أوجز ما أقره فقهاء وعلماء الأمة وقادته من المصلحين فى مفهوم الشورى وحكمها، ثم نتعرض بعد ذلك إلى ممارسة الشورى وبعض إشكاليات التطبيق للوصول إلى ممارسة صحيحة للشورى فى المستويات المختلفة .
فالشورى مبدأ قرآني، وأصل عام شامل لجميع شئون المجتمع، ولقد تميزت شريعتنا بأنها تربط الشورى بالعقيدة والعبادة إذ قال الله تعالى:(والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) الشورى: 38، و لقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبين الممارسة العملية للشورى،فالشورى هي تداول وتقليب الآراء بين مجموعة معينة في موضوع معين للوصول إلى رأى يتم الاجتماع عليه أو يحوز الأغلبية ويصبح ملزما للجميع، فأي قرار يتخذ ينبغي أن يكون نتاج الشورى، لعموم قول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم )، لما تسمح به الشورى من تنوع في الآراء التي تعرض قبل حسم الأمر واتخاذ القرار(وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله )آل عمران159
إن الشورى فى الإسلام مبدأ إنساني أولا، واجتماعي وأخلاقي ثانيا، ثم هي قاعدة دستورية لنظام الحكم،والشورى بمعناها الواسع الأعم تشمل جميع صور التشاور والتنا صح والحوار الحر،ومبدأ الشورى يركز على أهمية الجهد الفكري الذي يجب على الجماعة أن تبذله قبل اتخاذ قرارها،وضرورة إتاحة الفرصة لجميع الأفراد للمشاركة في هذا الجهد العقلي والحوار الفكري، عن طريق المساهمة في حوار حر يدور بينهم على أساس المساواة والحرية الكاملة، وغاية الشورى هي تحقيق العدل وتنفيذ مقاصد الشريعة ومبادئها، ولذلك فإنها فرع من فروع الشريعة وتابعة لها،كما أن الشورى هي الشريان الذي تجرى من خلاله أفكار الأمة وآراء أفرادها في جسم المجتمع،أما الشريعة بما تتضمنه من قيم ومبادئ فهي التي تصنع هذه الأفكار، وهى التي تطهرها وتنقيها وتجعلها صالحة .
والشورى بمعنى التشاور الذي يؤدى إلى قرار صادر من الجماعة – بالإجماع أو الأغلبية – في شئونها العامة التي تختص وحدها بإصدار قرار بشأنها، وحكمها أنها ملزمة،وهذا هو رأى جمهور الفقهاء و العلماء،وهناك رأى آخر بأنها معلمة،والاختيار الفقهي لجماعة الإخوان المسلمين هو أن الشورى ملزمة .
ثانيا : أسلوب تطبيق الشورى يتدرج إلي ثلاث مراحل هي :
أولا- مرحلة صنع القرار :
وهذه المرحلة يقوم بها أصحاب الرأي والمشورة في الجهة المنوط بها اتخاذ القرار، وفيها يكون كل علىمن ولى أمراً من أمور المسلمين أن يتواضع عن موقع الرئاسة فيكون بين مستشاريه كواحد منهم، ويشعروا هم بهذا حتى يقدم كل منهم ما عنده من رأى و فكر واجتهاد، وفى هذه المرحلة تطرح التصورات، وتمحص البدائل، وتساق الحجج، بما يناسب الموقف وبما يحقق المصلحة الشرعية، وفى هذا المجال تناقش الآراء وحيثياتها دون خشية صاحب الرأي ومقدم المشورة، وهذا يتطلب من أولى الأمر سعة الصدر ولين الجانب وإشاعة الطمأنينة في قلوبهم (فبما رحمة من الله لنت لهم )، وكما يتطلب أيضاً نزع الرهبة والخوف من قلوبهم بما يشحذ الهمم والطاقات في طرح الأفكار وإبداء الآراء (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)، فالجو الذي يجب أن يسود هو جو تأليف القلوب وتطييبها، كما يغلب عليه روح العفو والاستغفار الذي يستمر إلى ما بعد انتهاء مجلس التشاور، وهو عفو واستغفار عن ما يكون قد وقع فيه من لغو في القول أو الحديث دون قصد إساءة أو تجريح (فاعف عنهم واستغفر لهم)
ثانياً- مرحلة اتخاذ القرار:
وهذه المرحلة يقوم بها أولو الأمر وأصحاب الرأي والمشورة في المستويات المختلفة، ويكون لأولى الأمر أحد احتمالين:
- إما أن يكون رأى أولى الأمر موافقا لرأى أغلبية المشاركين، فيكون هذا هو القرار الذي يجب إتباعه.
- وإما أن تميل الأغلبية إلى رأى يخالف رأى أولى الأمر، فيكون القرار على مقتضى رأى الأغلبية، ولا يجوز الاحتجاج بأن أولى الأمر يملكون رؤية أوسع، إذ كانت لديهم الفرصة لوضع كل الحقائق والمعلومات أمام من يشاورهم، ولعل هذا هو الذي يوافق السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرة قريش لقتاله، حتى بلغوا مسافة خمسة أميال من المدينة، بعث من تحسس الأخبار، كي لا يتخذ القرار إلا على معلومات مؤكدة، ثم استشار أهل الرأي فانقسموا إلى قسمين:
- البعض أشار بالتحصن بالمدينة وقتال العدو فيها، كعادة أهلها من قبل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل إلى هذا الرأي.
- البعض الآخر أشار بالخروج لملاقاة العدو ردعا له، وإظهارا لشوكة المسلمين، وقد تغلب هذا الرأي في النهاية، فكان أن اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره على مقتضى ما أشارت به الأغلبية، رغم مخالفتها لما كان يراه.
ولقد سار الخلفاء الراشدون من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الشورى على نفس النهج.
ثالثاً - مرحلة تنفيذ القرار:
وهى المرحلة التي تلي اتخاذ القرار، وفيها يكون أولو الأمر وأصحاب الرأي والمشورة قد استنفذوا جهودهم، واخذوا بالأسباب، وأدوا كل ما هو مطلوب منهم، فيتوكلون على الله لأن النتائج والأقدار بيده سبحانه لا شريك له، وليس لنا إلا اتخاذ الأسباب، وقد تم ذلك في المرحلتين السابقتين، فلا يجوز العودة لفتح باب الشورى أو مناقشة أي جانب من جوانب الموضوع، إذ على الجميع أن يتوجهوا مباشرة إلى وضع القرار موضع التنفيذ مستعينين بالله مطيعين لما يأمر به متخذ القرار (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) آل عمران 159، ولعل خير مثال على ذلك هو ما حدث بعد اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم القرار بالخروج لملاقاة الكفار عند جبل أحد، وانصرف بعدها للاستعداد للمعركة د ون أن يلتفت إلى قولهم (ما كان لنا يا رسول الله أن نخالفك، فاصنع ما بدا لك، وما كان لنا أن نستكرهك، والأمر إلى الله ثم إليك )، وكان قوله صلى الله عليه وسلم (وما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه ).
ولقد أصبحت الشورى أمراً مستقراً لدى المسلمين، ففيما رواه سعيد بن المسيب عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه قال:(قلت يا رسول الله، الأمر ينـزل بنا لم ينـزل فيه قرآن، ولم تمضى فيه منك سنة قال:اجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد).
ثالثا : إشكاليات فى تطبيق الشورى
ومما سبق تتضح لنا معالم الشورى فقها ًوتطبيقا ً، وقد يظهر لنا أثناء الممارسة والتطبيق بعض الإشكاليات التي يطرحها البعض، وتحتاج منا إلى تذكير وتأكيد لما يجب أن تكون عليه ممارسة الشورى حتى تبقى على آصالتها وعراقتها،ومن هذه الإشكاليات:
أولا: هل يجب على جميع الأفراد الالتزام بما انتهت إليه الشورى من قرار؟
الاختيار الفقهي للجماعة بأن الشورى ملزمة،والالتزام بالشورى يعنى أنه متى صدر القرار بالشورى فإنه يصبح ملزماً للكافة،بما فيهم أولو الأمر الذين يتولون سلطة التنفيذ، إذ إن مهمتهم الأولى تكون تنفيذ قرارات الشورى والالتزام بها، ووجب على جميع الأفراد أن يلزموا قرارات الشورى، ويعمل الجميع على تنفيذها دون تردد أو إبطاء، وكل إخلال من أى فرد بهذا الالتزام يترتب عليه إخلال بمقصد الشورى، ولا يعقل أن تكون الشورى ملزمة لأولى الأمر وغير ملزمة لكافة الأفراد، وكما يقول الأمام حسن البنا:(وأريد بالطاعة انفاذ الأمر في التو واللحظة، في العسر واليسر، في المنشط والمكره،في غير معصية )،فالطاعة تكون واجبة بعد أخذ الشورى.
ثانيا : أليس من حق الأقلية أن تتبنى وجهة نظرها وتعمل على طرحها على عموم الأفراد دون التقييد برأي الأغلبية وما انتهت إليه الشورى من قرارات ؟
الشورى تسمح بتعدد الآراء ووجهات النظر في مرحلة دراسة وصناعة القرار، ويتم هذا وفق أسس ونظم ولوائح تنظم ذلك كله، ولكن بعد مرحلة اتخاذ القرار يلتزم الجميع بالقرار سواء من كان يؤيد أو من كان يعارض،و يعمل الجميع على تنفيذ القرار بتجرد كامل دون هوى في النفس أو إعجاب كل ذي رأى برأيه، ويحرص الجميع على وحدة الصف وتماسكه دون تنازع يؤدى إلى الفشل أو الفرقة، والكل يعلم أن درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، والاجتماع على المفضول خير من التفرق على الأفضل.
ثالثا: ما المانع أن يكون هناك أجنحة أو تيارات متعددة داخل الجماعة الواحدة ؟
عندما تكون هناك جماعة قامت وتسعى لتحقيق غاية وأهداف محددة، وتعمل وفق وسائل ومسارات وآليات محددة، ولديها من السياسات والضوابط والنظم واللوائح التي تعمل بها، مما يجعل الطريق واضحاً أمام كل من أرتضى أن يعمل من خلالها، ولذا وجب على الجميع أن يلتزموا بمنهجها ونظمها دون إخلال بها أو انحراف عنها، وكيف تكون جماعة هدفها نبيل وغايتها سامية وبنيانها متين وليست فيها وحدة التصور، ووحدة الفكر، ووحدة العمل التي تعمل على نجاح أهدافها وتحقيق غايتها، ولا يمنع هذا من وجود تنوع في الآراء ووجهات النظرالتى تساهم في دراسة واتخاذ القرارات بشكل فعال،ولكن أثناء تنفيذ القرار يصبح الجميع على قلب ورأى واحد، وهذا هو كمال وتمام الطاعة .
إن ممارسة الشورى والالتزام بضوابطها وآدابها تحتاج منا إلى فهم ووعى، كما تحتاج منا إلى الشجاعة والقدرة على ضبط النفس،وكما يقول الإمام البنا رحمه الله: (وأعظم الشجاعة الاعتراف بالخطأ والإنصاف من النفس)، وهى أيضاً تحتاج منا إلى الصبر الجميل وسعة الصدر حتى تؤتى ثمارها (يأيها الذين أمنوا اصبروا وصابرو ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)آل عمران.
نسأل الله العظيم أن يلهمنا رشدنا، ويهدى لنا أنفسنا،ويحفظ لنا وحدتنا وترابطنا فهي سر قوتنا.

إلى أخى الداعية الثقة


أن أعداءنا يعلمون أن الأسلام هو عدوهم الأكبر. لقد علمهم التاريخ القديم والحديث أن شعبنا إذا عرف طريقه إلى الأسلام الصحيح فقد آذن سلطانهم بالزوال، وهم لا يخشون الأسلام »المستأنس« الذى لا شوكة له، وإنما يخشون الأسلام الحركى المناضل الذى يعبىء قوى المسلمين كلها ويضم صفوفهم فى مواجهة عدوهم.
ولما كانت دعوتكم أيها الأخوان تمثل التجمع الحركى الكبير الذى يقف فى وجه هؤلاء الأعداء ويهدد بافساد كل مخططاتهم، فقد كان من الطبيعى أن يوجهوا إليها كل أسلحتهم، وألا يدعوا سبيلا لحربها والقضاء عليها ألا اتبعوها.
ولا شك أن من أخطر الوسائل التى يلجأ إليها هذا العدو الماكر أن يفتت هذه الدعوة من داخلها، حتى لا تواجهه إلا وهى مفرقة ممزقة، وخير ما يعينه على ذلك فقدان الثقة بين الجند والقائد، فإن الجنود إذا فقدوا الثقة فى قيادتهم اهتز فى نفوسهم معنى الطاعة، وإذا فقدت الطاعة لم تعد هناك قيادة ولا جماعة.
من أجل ذلك حرص الأمام البنا فى رسالة »التعاليم« على أن يجعل بند »الثقة« ركنًا من أركان البيعة العشرة التى يبايع الأخوان على أساسها، وأبرز لأخوانه أهمية هذا الركن فى المحافظة على تماسك الجماعة ووحدتها حيث يقول:
».. ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وأحكام خططها، ونجاحها فى الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب (فأولى لهم طاعة وقول معروف).. والثقة بالقيادة هى كل شىء فى نجاح الدعوات«.
ولا يلزم كى نولى القائد ثقتنا أن يكون هذا القائد أقوي الناس وأتقى الناس وأعلم الناس وأفصح الناس، فذلك مطلب عسير، لا نحسبه تحقق للكثيرين بعد رسول الله <، وأنما يكفينا أن أخوانه أعتبروه أقدرهم على حمل هذه الأمانة الثقيلة فكلفوه بها، فإذا أفترضنا أن أحد الأخوة رأى فى نفسه، أو رأى منه غيره، موهبة أو ملكة لم تكن عندما قادته.. فلتوضع هذه الملكة تحت تصرف القيادة حتى تكون عونًا لقائدة لا حربًا عليه وعلى الجماعة. ولعلك يا أخى تذكر ما دار بين أبى بكر وعمر بعد وفاة رسول الله >، حيث قال عمر لأبى بكر: أبسط يدك أبايعك، فقال أبو بكر: أنت أقوى منى. وهنا قال عمر: قوتى لك كع فضلك. أجل، فقوة الجندى المؤمن أنما تكون لصالح القيادة والجماعة ولا تكون ضد القيادة والجماعة. ولقد صدق عمر فى ذلك، فقد كانت قوته دائما من وراء أبى بكر.. كان يعينه ويشد أزره ويوليه ثقته.
من أجل هذا المعنى كان جواب الإمام البنا لمن سأله: إذا حالت الظروف بينك وبين أن تكون بيننا، فمن تنصمنا بأن نوليه علينا أن قال: يا أخوان، أجعلوا عليكم أضعفكم، ثم اسمعوا له وأطيعوا، فسوف يكون بكم أقوالكم.
ولقد كان عمر لشدة ثقته فى قائده يختلف معه فى الرأى أحيانًا، فأذا رآه مصرًا على رأيه تنازل هو عن رأيه مسلمًا بأن رأى أبى بكر أعظم بركة من رأيه، ولعلك يا أخى تذكر كيف أختلف عمر مع أبى بكر فى شأن مانعى الزكاة، وكان جل صحابة رسول الله > يرمون رأى عمر فى عدم قتالهم، ومع ذلك فإن عمر ما كاد يرى أبا بكر مصرًا على قتال مانعى الزكاة حتى قال قولته المعروفة التى تعبر عن ثقته الكاملة »فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق«.
ولم لم يكن عمر على هذا المستوى الكريم من الثقة والطاعة لسولت له نفسه أن الحق معه هو، فقد سمع رسول الله > يقول »جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه«. وما أحوجنا نحن أن نتذكر ذلك إذا أختلف رأينا مع رأى القيادة فى الأمور الاجتهادية، وأن نذكر معه أننا لم نسمع رسول الله > يقول عن أحد منا أن الله جعل الحق على لسانه أو قلبه.
ونظرًا لأهمية الثقة فى القيادة ـ فى فكرها وفى قراراتها وفيما بايعها الأخوان على أساسه ـ فقد تعرضت فيما سبق من كلمات إلى بعض الشبهات التى أوردت على رسالة »التعاليم« أو رسالة »البيعة« كما كنا نسميها، وأتعرض اليوم لشبهة أخرى، فقد علمت أن هناك مقولة تزعم أن أيات الصفات ليست من المتشابه، وكأن قائلها يريد أن يقول أن الأمام البنا قد جانبه الصواب حين ذكر فى الأصل العاشر من الأصول العشرين ما يفيد أن آيات الصفات من المتشابه.
ولقد رجعنا إلى كتب أسباب النزول ثم إلى كتب التفسير فوجدناها تذكر بجلاء أن آية »هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات..« (سورة آل عمران الآية 7) إنما نزلت فى وفد نصارى نجران حين جاءوا يجادلون رسول الله > فى قول القرآن عن عيسى »وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه« (وهى من آيات الصفات) ويزعمون أن القرآن بذلك يؤيدهم فيما يفترون من أن عيسى ابن الله وأنه ثالث ثلاثة، ولكن القرآن رد زعمهم حيث يقول بعد ذلك مباشرة ».. فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون فى العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا..« وذكرت كتب التفسير أن القرآن هنا يطالبهم بأن يردوا المتشابه إلى المحكم من مثل قوله تعالى »أن هو إلا عبد أنعمنا عليه« وقوله تعالى »أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون« أى أن عيسى لا يختلف عن آدم فى ذلك، فآدم أيضًا أحتاج إلى نفخة من روح الله »ونفخت فيه من روحى« وإلى كلمة »كن« لكونه أيضًا وجد من غير أب، بل ولا أم (أنظر تفسير ابن كثير وتفسير القرطبى وصفوة التفاسير والتفسير الواضح و»من ظلال القرآن« وصاحب تفسير المنار فيما ينقله عن الأمام محمد عبده ج3 ص162 تجدهم جميعًا يذكرون أن آيات الصفات من المتشابه).
ولقد رجعنا بعد ذلك إلى غير كتب التفسير فوجدنا الشاطبى فى الأعتصام (ج1 ص،239 240) والجصاص فى أحكام القرآن (ج3 ص6) وابن الجوزى فى تلبيس إبليس (ص116) والشهر ستانى فى الملل والنحل (ج1 ص104) وجدناهم جميعًا يقرون أن آيات الصفات من المتشابه، بل لقد نقل الشهر ستانى ذلك عن الأمام أحمد بن حنبل أيضًا، وسوف أنقل لك هنا أيضًا نصًا من كلام الأمام ابن تيمية أنقله عن تفسيره لسورة الأخلاص (المجلد 17 من مجموع الفتاوى ص379) طبع مكتبة ابن تيمية لأحياء التراث الأسلامى« وهذا النص يبين بوضوح كيف أن الأمام ابن تيمية أيضًا كان يرى أن آيات الصفات من المتشابه.
يقول الأمام ابن تيمية »وكذلك قوله »ثم استوى على العرش«.. فهذا الاستواء يتضمن حاجة المستوى إلى المستوى عليه، وأنه لو عدم من تحته لخر، والله تعالى غنى عن العرش.. فصار لفظ الاستواء متشابها يلزمه فى حق المخلوقين معانى ينزه الله عنها، فنحن نعلم معناه، وأنه العلو والاعتدال، ولكن لا نعلم الكيفية التى اختص بها الرب التى يكون بها مستويًا من غير افتقار منه إلى العرش، بل مع حاجة العرش، وكل شىء محتاج إليه من كل وجه«.
وهنا يرد سؤال: إذا كان الأمر بهذا الوضوح، وعند هذا العدد من كبار علماء الأسلام (ومنهم أحمد بن حنبل وابن تيمية)، فما الذى يدفع البعض إلى جعلها قضية تثار فى الكتب وفى المقالات؟ هل تنقصنا الخلافات حتى نبحث عن جديد؟
يا أخواننا فى الأسلام.. لقد عرفنا سبابًا مسلمًا من خيرة الناس ما أبعدهم عن الدعوة الأسلامية ألا أمثال هذه الشبهات التى تثار من حولهم هنا أو هناك، دون أن تتهيأ لهذا الشباب الفرصة كى يدرسوا الأمر ويعرفوا حقيقته، فبقى عدد كبير منهم معلقًا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.. فاتقوا الله فيهم.
ثم لماذا هذا الاصرار على جعل آيات الصفات المحكمات؟ هل يراد بذلك الأصرار على أننا لا ينبغى أن نتسامح بشأنها مع من يخالفنا فى الرأى؟ لعل من الملائم اذن أن أنقل هنا كلمة لأبن تيمية جاءت فى »الرسالة التدمرية« يقول فيها:س
»المقصود هنا التنبيه على أن ما يجب أثباته لله تعالى من الصفات ليس مقصورًا على ما ذكره هؤلاء، مع أثباتهم بعض صفاته بالعقل وبعضها بالسمع، فإن من عرف حقائق أقوال الناس بطرقهم التى دعتهم إلى تلك الأقوال حصل له العلم والرحمة، فعلم الحق ورحم الخلق.. وهذه خاصة أهل السنة المتبعين للرسول >، فأنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم بإجتهاده حيث عذره الله ورسوله، وأما أهل البدع فيبتدعون بدعة باطلة ويكفرون من خالفهم« (نقله عنه صاحب تفسير المنار ج3 ص205).
ونحن ندعو (أهل السنة) فى زمننا هذا إلى مثل ما دعاهم إليه شيخ الأسلام ابن تيمية، ونطلب إليهم أن يرحموا من خالفهم باجتهاده، حيث عذره الله ورسوله.. ونسأل الله لنا ولهم التوفيق.
أيها الأخ الداعية: أننا لا نذكر هذه الأقوال والنقول كى تكون موضع جدل مع المخالفين، ولكن لكى نعرف الحق ثم نوضح الأمر لغيرنا ممن نحس منه رغبة فى معرفة الحق.. أما المماحكة والجدال، وخاصة فى آيات الصفات، فليست من سبيل المؤمنين، ولا بأس بأن نذكر بهذه المناسبة ما أورده القرطبى فى تفسيره (الجامع لأحكام القرآن ج4 ص15):
»قدم ضبيع بن عسل المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء، فبلغ ذلك عمر رضى الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل فلما حضر قال له عمر: من أنت؟ قال: أنا عبد الله ضبيع، فقال: وأنا عبد الله عمر، ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب ما كنت أجد فى رأسى«.
أرجو أن يكون فى هذه القصة عظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.



العمل فى مجال الدعوة



وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون) التوبة.
العمل الصالح مرادف للإيمان ومصدق له، وهما معا من أسباب النصر والتمكين والنعيم فى الجنة. والعمل فى مجال الدعوة من أجل التمكين لدين الله وإقامة دولة الإسلام من أفضل مجالات العمل الصالح وأشرفها.
ولقد اهتم الإمام الشهيد بقضية العمل أيما أهتمام، فجعل العمل ركنًا من أركان البيعة العشرة، وعندما تحدث فى رسالة بين الأمس واليوم عن وسائلنا العامة قال هى الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل. وفى المؤتمر الخامس ذكر أن من خصائص دعوة الإخوان إيثار الناحية العملية على الدعاية والإعلانات، مخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء فيسرع إليها التلف والفساد. ولتوضيح قدر العمل ومكانته يقول: يسهل على كثيرين أن يتخيلوا ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالاً باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلا من هذا الكثير يثبت عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل، ولكن قليلاً منهم يقدر على حمل أعباء الجهاد والعمل المضنى. وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله. وفى قصة طالوت بيان لما أقول، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والأختيار الدقيق وأمتحنوها بالعمل، العمل القوى البغيض لديها الشاق عليها وأفطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها.
كلام واضح ودقيق ويتناسب مع الهدف العظيم الذى تتصدى الجماعة لتحقيقه والذى تتسع ساحة العمل له، وتتعدد مجالات العمل فيه ويحتاج إلى زمن طويل وجهود كبيرة.
وغنى عن القول أنه لا يصلح لتحمل هذه الأعباء والقيام بهذه الأعمال إلا من رصدوا حياتهم لهذه الدعوة، وراضوا أنفسهم على تحمل مشاق الطريق. يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون. يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. يتقنون عملهم رجاء القبول فلا يقصرون ولا يتباطئون، يبتغون وجه الله ولا يراءون.
لا يقوم بهذه الأعباء ويؤدى هذه الأعمال الهامة المضنية إلا تلك النوعية من الأخوة العاملين ولا يصلح أن يستأجر لها أناس من غير هذه النوعية مهما أغدقت عليهم من مال.
ولكن الأخ العامل الذى عقد الصفقة الرابحة مع الله طمعًا فى جنة الله يسخر ما ما يملك من وقت وجهد ومال وعلم ونفس فى ميدان العمل للدعوة والجهاد فى سبيل الله، ولا يبخل بشىء من ذلك وفاء لبيعته فى ركن التضحية الذى يقول عنه الإمام الشهيد: وأريد بالتضحية بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شىء فى سبيل الغاية. وليس فى الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع فى سبيل فكرتنا تضحية ، وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل، ومن قعد عن التضحية معنا فهو آثم أن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة قل أن كان آباؤكم وأبناؤكم.. الآية. ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب.. الآية.
قضايا عامة
وقبل أن نعرض إلى بعض الحالات التى يتفاوت فيها الأفراد فى قدر العمل الذى يقدمونه للدعوة، وما قد يحدث عن عدم الموازنة بين العمل للدعوة والعمل للكسب المعيشى وقضايا البيت والأهل، وطغيان جانب على جانب، سنذكر قبل التعرض لهذه الحالات بعض القضايا العامة لتنير لنا الطريق:
* الفرذ المسلم مطلوب منه أن يعمل فى مجال الدعوة، ومنوط به أعمال أخرى كعمله الذى يتكسب منه ومهام أسرته وبيته، ولو نظرنا نظرة دقيقة فإن كل عذع الأعمال تعتبر كلها عبادة لله وليس فقط العمل فى مجال الدعوة، فالعمل للتكسب عبادة والأكل والشراب عبادة مادامت النية هى التقوى على طاعة الله والدراسة عبادة بنية أفادة الإسلام والمسلمين والزواج عبادة بنية العفة وإقامة البيت المسلم وتنشئة الذرية الصالحة. والرياضة عبادة بنية التقوى لتحمل أعباء الجهاد، وهكذا بالنية الصحيحة وتحرى الحلال فى هذه الأعمال تصير عبادة ينال صاحبها عليها الأجر والثواب من الله وتكون حياة المسلم كلها عبادة، ويحقق قول الله تعالى وما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون.
* ويتبع هذا المعنى معنى آخر هام وهو أن يجعل الأخ هذه الأمور المتصلة بعمله المعيشى وزواجه ومكان عمله وأسفاره وغير ذلك تخضع إلى حد كبير لمصلحة الدعوة، وحسن أدائه لما أنيط به من عمل الدعوة.
* الإسلام يحض على السعى على الرزق الحلال، ولا يرضى أن يكون المسلم عالة على غيره. لذلك نرى الإمام البنا يذكر ضمن مقومات الفرد المسلم المطلوب أن يكون قادرًا على الكسب. وكان يزهد فى الوظيفة الحكومية ويرغب فى العمل الحر الانتاجى. وقد حرص على إقامة مؤسسات اقتصادية ضمن نشاط الجماعة لممارسة النهج الإسلامى فى المعاملات الاقتصادية بعيدة عن الربا وغيره من المحرمات، ولدعم الحركة الإسلامية وللإسهام فى بناء المجتمع اقتصاديًا.
* الأصل أن يبذل الأخ من ماله لدعم العمل الإسلامى ولو كان من ضرورياته، ولا يكتفى بالفضل، ونرى الإمام البنا يتناول هذا المعنى وهو يرد على تساؤل من أين المال؟ فيقول: (يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبين الذين يرمقون الإخوان المسلمين على بعد ويرقبونهم عن كثب قائلين من أين ينفقون وأنى لهم المال اللازم لدعوة نجحت وأزدهرت كدعوتهم والوقت عصيب والنفوس شحيحة؟.. وإنى أجيب هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال. والعقيدة قبل الأعراض الزائلة، وإذا وجد المؤمن الصحيح وجدت معه وسائل النجاح جميعًا، وإن مال الإخوان المسلمين القليل الذى يقتطعونه من نفقاتهم، ويقتصدونه من ضرورياتهم ومطالب بيوتهم وأولادهم، ويجودون به طيبة نفوسهم سخية به قلوبهم، يود أحدهم لو كان أضعاف أضعاف فينفقه فى سبيل الله، فإذا لم يجد بعضهم شيئصا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون. فى هذا المال القليل والإيمان الكبير ولله الحمد والعزة بلاغ لقوم عابدين، ونجاح للعاملين الصادقين، وأن الله الذى بيده مل شىء ليبارك فى القرش الواحد من قروش الإخوان يمحق الله الربا ويربى الصدقات البقرة.
* إن النعم التى أنعم الله بها على كل واحد منا من صحة ومال ووقت وجهد وعقل وعلم ومعرفة ونفس تعتبر رصيدًا أو رأس مال قابلاً للإستثمار، وأريح تجارة لإستثمار تلك النعم هى التجارة التى يعرضها الله علينا بهذا الأسلوب المشوق يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم.. الآيات سورة الصف.
ولنتساءل معًا: ماذا نقول عن إنسان عنده رأس مال ومعروض عليه مشروع لإستثمار وعائده كبير جدًا ومضمون جدًا، وإذا بهذا الإنسان بدل أن يسارع لتقديم ماله لهذا المشروع إذا به يلقى ببعضه يوميًا فى البحر ويفقده، ولا يقدم لهذا المشروع الرابح شيئصا أو يقدم النذر اليسير؟ ربما كانت الإجابة على هذا التساؤل أن هذا الإنسان غير سوى وربما قد أصيب بلوثة فى عقله.
هل نعلم أن هذا المثال ينطبق على كل من لا يسخر الله السابق ذكرها فى مجال العمل للدعوة وفى سبيل الله. خاصة وأن الوقت الذى يمر دون استغلاله لن يعود مرة ثانية، تمامًا كالمال الذى يلقى فى البحر، وكان من الممكن فى ذلك الوقت تسخير جهده وعلمه وماله فى عمل نافع لدعوة الله ولكنه عطلها وأضاع فرصة الاستفادة بها.
تفاوت وتصليح
بعدما ذكرنا هذه المعانى العامة نعرض إلى تناول بعض الحالات التى يتفاوت فيها الأفراد فى مقدار ما يقومون به فى مجال العمل للدعوة، ومدى مسارعتهم أو تباطئهم، وتصحيح أى خطأ أو أنحراف فى هذا الجانب، وتوضيح التوازن المطلوب بين أعمال الدعوة وما عداها. فقد نرى أخًا استخوذ عليه العمل للدعوة بدرجة كبيرة ووجد فى ذلك سعادته ومتعته، وقد يكون ذلك على حساب عمله المعيشى أو على حساب أهله وبيته وأولاده أو على حساب صحته وأعصابه.
وفى الجهه المقابلة قد نجد من استحوذ عليه عمله المعيشى ومشاغل الأسرة والأولاد وكان ذلك على حساب عمله فى مجال الدعوة بل على حساب آخرته أن لم تتداركه رحمة الله.
وبين هاتين الصورتين صور متعددة بدرجات متفاوته. والصورة السليمة الأمثل أقرب إلى الحالة الأولى ولكن بعد تعديل فيها بأن يؤدى عمله المعيشى على وجه صحيح فهو عبادة وعليه أن يتقنه ليكون دخله حلالاً طيبًا، ويعطى أهله وبيته حقهم من الرعاية والعاطفة والمودة فهو راع لهم ومسئول عن رعيته، وأن يعطى بدنه حقه وإلا تعرض للعلل والإسقام نتيجة الارهاق ويكون ذلك سببا فى عجزه عن القيام بأعبادء الدعوة، ثم أن الإرهاق وتعب الأعصاب لهما نتائج سلبية على العمل والأنتاج، وعلى العلاقة مع غيره من أخوانه.
وسواء كانت كثزة العمل فى مجال الدعوة بسبب الرغبة الذاتية الشديدة، أو بسبب تراكم الأعمال والتكاليف لسوء التخطيط أوعدم إعداد معاونين، فلابد أن تعالج هذه الحالة ولا تترك هكذا وتصحح بما يحقق الاعتدال والتوازن.
هذا وإن الأهتمام بالأهل والأولاد عبادة وقربى إلى الله وأتباعًا لهدى رسول الله >، فالمطلوب إقامة البيت المسلم النموذج كدعامة فى البناء ولتنشئة الأجيال تنشئة صالحة، وبذلك يكون أفراد البيت كلهم عونا له على أداء واجبه فى الدعوة ولا يكونون مثبطين أو مصدر فتنة واعنات، بعكس ما إذا أنشغل عنهم حتى بأعمال الدعوة فإن هذا الإهمال ينتج متاعب وسلبيات وربما انحرافات ويكونون معوقين له ومثبطين ومصدر فتنة له. وقد لمسنا ذلك عمليا خاصة أثناء المحن، فالأسر التى أهتم بها عائلها قبل المحنة كانت مصدر راحة له وتشجيع، والأسر التى انشغل عنها عائلها قبل المحنة كانت مصدر اعنات له وتثبيط.
أما الحالة التى يشغل العمل المعيشى ومشاغل الأسرة الجانب الأكبر من وقت الأخ وجهده فإن ذلك يكون على حساب عمله للدعوة، وما يعود عليه هو نفسه من الزاد الروحى والاستقامة على أمر الله.
وقد يحدث ذلك إما لطبيعة العمل الذى يتكسب منه بأن يكون من النوع الذى يشغل صاحبه من الصباح إلى وقت متأخر من الليل كبعض الأعمال الحرة. أو يحدث ذلك بأن يعمل الأخ عملا إضافيا بجانب عمله الأصلى لزيادة الدخل، أو يكون شديد التعلق بالأولاد والأسرة أو غير ذلك من الأسباب.
وهذه الصور ولاشك خاطئة وآثارها ضارة وخطيرة خاصة إذا تصورنا حدوثها من عدد غير قليل، فيتعرض عمل الدعوة وانجازاتها إلى التعطيل أو القصور. فيلزم علاج مثل هذه الحالات قبل أن ينضب زاد أصحابها الروحى، وتحتويها دوامة هذه الأعمال والمشاغل ويصعب انتزاع أصحابها منها. ثم أنه يخشى أن يزداد حب أحدهم للمال ويقع فى فتنته، كما يخشى أن يقع فى فتنة الزوجة والأولاد. أيضًا.
فبالنسبة للعمل الحر الذى يستلزم الوقت الكثير يلزم عمل الترتيب لتنظيم العمل وتوزيع المهام بحيث يتوفر للأخ وقتًا مناسبًا لعمله للدعوة. هذا ويفضل أن تكون الأعمال الحرة فى مجالات تخدم الدعوة بطريق مباشر أو غير مباشر، فيعتبر العمل فيه ضمنًا عملا للدعوة أيضًا.
أما الذين يسعون للارتباط بعمل معيشى إضافى لزيادة الدخل، فالأمر يحتاج معهم إلى مراجعة. فهناك قلة منهم أعباءهم العائلية ثقيلة وتضطرهم لذلك فنلتمس لهم بعض العذر، وربما يمكن معالجة هذه الحالات بمالا يحرم الدعوة من طاقاتهم وجهودهم. أما الذين يعملون وقتًا إضافيًا لزيادة الدخل فى حين أن عملهم الأصلى مجزئ، فالأولى بهم أن يقدموا أوقاتهم وجهودهم للقيام بأعباء الدعوة التى لا يمكن أن يقوم بها غيرهم، ولسنا فى حاجة إلى التذكير بأن ثواب الله لا يعدله أى مال فى الدنيا، ولا يجوز أن يكون الدافع للعمل الاضافى المحافظة على مستوى معيشى جيد مجاراة للناس الذين تنافسوا الدنيا وجروا وراء متاعها الزائل، ولنذكر قدوتنا > وصحابته الأكرمين ومستوى معيشتهم فى طعامهم ولباسهم وأثاث بيوتهم وغير ذلك.
والذى يكتفى بعمله الأصلى ويقدم باقى وقته وجهده للدعوة يبارك الله له فى ماله وصحته وزوجته وأولاده، أما الذى ينظر نظرة مادية بحتة ويفضل العمل الاضافى على عمل الدعوة قد يبتلى فى شىء من ذلك وينفق أضعاف ما حصل عليه من عمله الإضافى.
وقد تقتضى ظروف العمل للدعوة قيام أخ بمهام تضطره إلى تركه عمله المعيشى الأصلى ويتم تفرغه وتعويضه، فلا ينبغى أن يشعر بالحرج فى أخذه مقابل عمله للدعوة، ثم يعتذر عن التفرغ، فهذا أيضًا خطأ ويعطل إنجاز مهام الدعوة التى لا يصلح لها إلا أمثال هؤلاء. وفى سيرة سلفنا الصالح من كانوا يقومون بأعمال ويعطون من بيت المال.
وعلى الذين يبسط الله لهم الرزق فى عملهم المعيشى متحرين الحلال ومتحرزين من الحرام أن تحتاجه للقيام بأعبائها فتلك هى التجارة الرابحة: مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم البقرة. وكلنا يعلم كيف كان سيدنا عثمان بن عفان وسيدنا عبد الرحمن بن عوف يساهمون فى تجييش جيوش المسلمين بأموالهم سخية بها نفوسهم.
وفى الختام نقول أننا أردنا بهذه الجولة فى أعماق النفوس أن نوضح قضية العمل فى مجال الدعوة وأهميتها، وأن نصحح المقاييس والموازين لتكون ربانية وليست مادية دنيوية، ولنستجيب جميعا لهذا النداء يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعملون الصف.

_

الجمعة، 28 أغسطس 2009

غزة بين همجية عدونا وصمت حكامنا!!


بقلم: عصام عبد الرحمن
حصار رهيب محيط صامت، لا يستحي من الجهر بدعم الجريمة، هذا هو وضع أهلنا في غزة.. كم من مشهدٍ هزَّ المشاعر الزائفة لعالمٍ زائف!!.. تماثيل بوذا حرَّكت كل العالم ذات يومٍ، وتحوَّلت إلى قضيةٍ إنسانيةٍ رغم أن الأمرَ يتعلق بتماثيل من حجر!!، ويتحرَّك العالم أكثر من مرةٍ لإنقاذ رهائن ما في العراق وفي أفغانستان.. تُرى مَن ينقذ رهائننا في غزة من قبضة احتلالٍ لا يرحم؟! مَن يتألَّم لمئاتِ الآلاف من الفلسطينيين في القطاع؟!.
لقد خيَّم الصمتُ علينا واكتفَيْنا بمتابعة أخبار المجازر في غزة عن طريق الفضائيات.. أهذا أقصى ما يمكن أن يُقدَّم لشعبٍ تحت القصف وتحت الحصار؟!.
أين الضمير الإنساني؟! أين الحكومات العربية التي تسارع للتنديد بصواريخ حماس والجهاد؟! أين عروبتنا؟! أين مواثيق الدفاع المشترك؟! أين التزامنا الأخلاقي والديني والقومي تجاه فلسطين؟! ولماذا تحرص الحكومات العربية على الالتزام بمعاهدات "السلام" المزعوم مع اليهود وتتحاشى مجرد التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة؟!.
كم أصبحت دماؤنا رخيصةً بلا ثمن يا أهلَنا في غزة!!.. ذنبكم ليس لأنكم من سكان هذه الأرض المقدسة، إنه ذنب هذه الأنظمة التي تتاجر بالقضية من محيط أرضنا إلى خليجها.
وصدق قول الشاعر أحمد مطر في حكامنا حين قال:
وصفوا لي حاكمًا
لم يقترف منذ زمان فتنةً أو مذبحة
لم يكذب.. لم يخن.. لم يطلق النار على من ذمَّه
لم ينثر المال على مَن مدحه
لم يضع فوق فم دبابة
لم يذدرع تحت ضمير كاسحة
لم يجر.. لم يضطرب.. لم يختبئ من شعبه
خلف جبال الأسلحة
هو شعبيٌّ
ومأواه بسيط
مثل مأوى الطبقات الكادحة
زرتُ مأواه البسيط البارحة، وقرأت الفاتحة
فبعد زيارة الرئيس الصهيوأمريكي (بوش) للمنطقة وإملاءاته التي أملاها على الحكام العرب، لم يكن من الأنظمة العربية ما تقوم بها الآن من صمت القبور، ومن عجزها في أن تُرسل جيوشها وطائراتها لتدافع عن قطاع غزة، أو حتى تمدها بالطعام والدواء؛ فهي أعجز من أن تفعل ذلك؛ فقد أملى الرئيس الصهيوني (بوش) للأنظمة الحاكمة في البلاد التي زارها كل ما يستطيع أن يفعله، وكما نعلم جميعًا فهو صاحب قضية ويُحارب من أجلها، ألا وهي حربه الصليبية على الإسلام!!.
لا حاجةَ للكثيرِ من الكلام المنمق؛ فنحن لا نُحمِّل المسئوليةَ للصهاينة الذين يحاربون عدوهم بعد أن رفض الاستكانة لشروطهم كما استكان الآخرون، ولا تقع على المجتمع الدولي المنافق الذي تعوَّدنا انحيازه للدولة العبرية، بل نحمِّلها كاملةً لحكامنا خائني غزة، خائني الإسلام، في الوقت الذي يجول بوش في صحاري العرب ويصول، ويُقبَّل على وجنتيه الباردة من شفاه الزعماء العرب ويراقصونه على أنغام موسيقاهم، وأمام الصمت الدولي وغضِّ البصر على المجازر التي ترتكبها عصابات الصهيونية.
هذا أمرٌ لا يتوافق وحروب الغرب على ما يُسمونه الإرهاب، وكذلك شعارات منظمات حقوق الإنسان وتقارير منظمات الأمم المتحدة تبدو أنها تقيس بمقاييس.. فهل أهلنا في غزة لا تنطبق عليهم إنسانية الغرب؟! أم لا يستحقون الحياة؟!!
تعاطف الغرب مع مجازر النازية ضد اليهود، وصنعوا لهم كيانًا مغتصبًا في أرضِ العرب، وقدَّموا لهم الدعم والعون، وخُوِّل مجلس الأمن بحمايتهم من أي قرارٍ يُدين همجيتهم وعسفهم.. فماذا يستطيع سكان غزة فعله؟!!.
الدم الطاهر في غزة أغرق الشطآن، وجرائم المحتل يعجز عن وصفها اللسان.. أشلاؤنا في غزة تتناثر وتملئ الأركان، وحمم القذائف المجنونة لا تفرق بين شيبٍ وشبان، الثكالى يندبن الأحبةَ بصوتٍ تقشعر له الأبدان، هكذا الصورة في غزة؛ حيث يوأد الإنسان، وحيث يدفع الفلسطيني ثمن رفضه الأبدي للإذعان!!.
أرض غزة لم يعد فيها للأموات مكان، أرض غزة لم يعد فيها أمن ولا أمان، الأمل يتلاشى كغيمة حزيران، والجوع والفقر بالناس يفتكان.

وكذا الأوبئة؛ تنتزع الأرواح بيسرٍ من الأبدان، وحقد المحتلين تفجَّر مجنونًا كالبركان، لا حدودَ لبطشه حتى غدا طوفان، مستغلاً صمت الحكام العرب، ومتسلحًا بالدعم الذي ناله من رئيس الأمريكان!!.
يا أيها الحكام.. تمردوا، اغضبوا مرةً، أو فارحلوا عنا؛ فقد مللنا التفاوض، فقد مللنا الذل، أو ابعدوا الوهن من قلوبكم إلى الأبد.. قولوا لا للتفاوض حتى يحقن دمنا، واصمدوا.. قولوا لا لن نُفاوض، حتى يوقفوا الاستيطان والجدار، وتشددوا، ومع صوتِ شعبكم توحدوا.
يا أيها الحكام.. تمردوا وقولوا للعالم "دمنا أثمن من ملياراتكم"، "حقوقنا ليست في مزادكم سلعةً"، وسيروا على درب الكرامة بلا رجعة، وكونوا بوجه الضغوطِ مثل قلعة، وهكذا تشعلون لشعبكم شمعة، وتعطون لمسيرةِ النضال دفعة؛ كي لا تنزل من عيون أمهاتنا دمعة.
يا أيها الحكام.. تمردوا، يا سادتي الكبار.. شعبكم يموت تحت الحصار، خذوا القرار، أوقفوا التفاوض والحوار؛ حتى يتوقف القتل والدمار، ويتوقف الاستيطان والجدار، صلبوا المواقف وأظهروا الإصرار، رصوا الصفوف وانفضوا الغبار؛ فلدى شعبنا أكثر من خيار، سيكون شعبكم أمامكم، فاتخذوا القرار، لا تخافوا؛ صدورنا فدائكم، فتحرروا من مفاوضتكم، تحرروا من ذلكم، تحرروا، فكوا قيود الذل عنكم، فلا تخذلوا شعوبكم.
يا أيها الحكام.. اغضبوا؛ فعدونا لا يفكر في السلام، وغايته منا الخضوع والاستسلام، وبالتفاوض يُجرجرنا للانهزام، فسيروا للأمام، وأنهوا الشرذمةَ والانقسام.
يا سادتي.. اغضبوا ولو مرةً، واكسروا ذل التفاوض ولو مرة؛ فوالله لن تندموا؛ لأن شعوبكم من ورائكم تزأر.
يا أيها الحكام.. أين عزتكم؟! أين نخوتكم؟! أين أنتم مما يحدث في غزة؟! ألم تسمعوا صراخ الأطفال؟! أليسوا كأطفالكم؟! ألم تسمعوا صوت حرائر غزة وهم يستغيثون بكم؟! لِمَ الصمت يا حكامنا؟! أخائفون من أمريكا؟!، سُحقًا لأمريكا وسُحقًا لإسرائيل، أخائفون على كراسيكم؟!، فسحقًا لهذه الكراسي التي أذلتكم، أخائفون على شعبكم؟! اتركوا الشعب يُعبِّر عن نفسه.
يا حكامنا.. ألسنا بمسلمين وأليسوا بمسلمين؟! لِمَ الخنوع والذل من الكفار؟! من الإرهابيين؟! من مصاصي الدماء؟!.
اسمعوها عاليةً؛ إنها صرخة من أهل غزة إلى الشعوب المسلمة، إلى متى الصمت؟! ألم تسمعوا بضحايا غزة؟! ألم تسمعوا بأنين مرضاهم؟! ألم تسمعوا بصرخاتِ جراحهم؟!
تخيَّلوا وأنتم تعيشون في قصوركم بدون كهرباء وبدون ماء.. أتتخيلون ذلك؟!، بل أكثر من ذلك؛ كيف سيكون إحساسكم وأنت تموتون من البرد القارس بدون تدفئة؟! تخيلتم كيف تعيشون والدنيا حولكم ظلماء؟!.. هي ستكون كذلك عليكم يوم القيامة، هي ستكون كذلك عليكم في قبوركم.
يا حكامنا.. أضيئوا غزةَ لكي تُضاء لكم قبوركم.
بالله عليكم، نستحلفكم فكوا حصار غزة ولا تخافوا؛ نحن الشعوب العربية من أمامكم نصد عنكم، وسنكون لكم حائطًا صلبًا ضد كل شيء وأي شيء.
يا الله يا الله يا الله.. كُنْ مع أهلنا يا الله، إنا نعتذر عن تهاوننا وتقصيرنا، يا الله فرِّج عنهم وكن معهم يا الله؛ إنهم محاصرون، ففك حصارهم.. ليس إلا بسببِ أنهم قالوا لليهود والأمريكان "لا".
محطات قصيرة
المحطة الأولى: فاجأ اللاعب المصري الموهوب محمد أبو تريكة جميع من شاهد مباراة مصر والسودان في بطولة أفريقيا والمقامة الآن في غانا بموقفٍ هو غاية في النبل والكرم والمروءة والنجدة؛ إذ رفع اللاعب "فانلته" بعد إحرازه هدفه الأول ليجد المشاهدون أنفسهم أمام "تي شيرت" أبو تريكة الآخر، والذي حمل عبارة (تعاطفًا مع غزة).
وهو ما جعل الكثيرين يعلِّقون على تلك الفعلة ويردُّونها إلى أخلاقيات اللاعب الموهوب وإحساسه المرهف بقضايا أمته!!.
والحقيقة أن موقف أبو تريكة ينمُّ عن نُبل شخصيته، ولعل موقفه هذا ذكَّرني بموقف المحالين الذين طالبوا هيئة المحكمة العسكرية في خطابٍ تلوه عليهم أن يسمحوا لهم بالخروج ليقفوا مع إخوانهم في غزة، ووعدوهم بالعودة بعد أن يحرِّروا فلسطين من الصهاينة إن بقي منهم أحد حيًّا.
المحطة الثانية: أسأل الله العافية والحرية لكلِّ مَن نصر قضايا المسلمين وكل مَن تحرَّك لنصرةِ غزة العزة.. هنيئًا لكلِّ مَن اعتُقِلَ وحُبِسَ من أجل فلسطين ومن أجل الأقصى ومن أجل الشهداء ومن أجل المُحَاصَرِين الجياع والمرضي!!، هنيئًا لمَن رفض أن تُقتَل غزة بدمٍ بارد!!، هنيئًا لعبد الفتاح، وللزعفراني، ورفاقهم الأبطال.. ولا نامت أعين الجبناء.
المحطة الثالثة: عباس يُعلن صراحةً أن سلطته والكيان الصهيوني يقفان معًا في وجه "حماس"، ولا حياء للعملاء!!.
المحطة الرابعة: تحيةً لأهل غزة وللمقاومة في غزة، تحيةً للذين علَّموا كل الأمة كيف تكون الخطوات الوحدوية، وكيف يكون تجاوز الخطوط الحمراء التي فرضتها الأنظمة أو الطرف الأمريكي- الصهيوني!!.
تحيةً للجماهير المصرية التي احتضنت غزة، ولعبت دورًا لا يقل أهميةً في فتح "الحدود" معها، وأثبتت أن الضغط الشعبي العربي يمكن أن يُثمر نتائج سياسيةً مفيدةً وفعَّالةً، بدون تقديم تنازلاتٍ مبدئية.

رسالة إلى كل ظالم

بقلم: عصام عبد الرحمن
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42)﴾ (إبراهيم).
يظهر في كل زمان ومكان فرعون- وما أكثر الفراعنة المتألِّهين!!- كل أفعاله تقول إنه الإله، يسن القوانين، ويعيِّن الوزراء، ويغيِّر الدستور، ويعيش في برجٍ عاجيٍّ كأنه الواحد الأحد، والعياذ بالله!! ويدَّعي أنه يعمل لمصلحة شعبه، نعم.. إنه لا يغفل ولا ينام، ليس عن قدرة.. ولكنه الخوف الذي ملأ قلبه من كل شيء، ولكن هيهات أن يَحيا حياةً طبيعيةً، إنه يخاف كلَّ شيء: زوجه وابنه وأقاربه، بالإضافة إلى هذا الشعب المسكين الذي ذاق مرارة الكبت والذلّ على أيدي هؤلاء المتألِّهين.

وهذا المتألِّه على الله يجمع حوله مرضى الأمة، من أمن دولة، وأمن مركزي، وغيرهم من الزبانية الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّّ ولا ذمةً، ويصبح لهذا المتألِّه آلهةٌ صغيرةٌ (أعوان الشيطان) حوله، تسبِّح بحمده، وتصلِّي له، وتنكِّل بالكفرة به، وكفى بوسائل إعلامه الذكية، التي لا تضيِّع فرصةً إلا وأظهرت ولاءَها التامَّ له ولأعوانه!!

وإذا أردت أن ترى النفاق الحقيقي فاجمع أعدادًا من إحدى صحفِه، فسترى العجب العجاب.. نفس الكاتب في زمانَين مختلفين لحدثٍ واحد، مرة يهاجم، وأخرى يسبِّح، استعجل في الأولى فهاجم، ولما تكلَّم سيده بعكس ما قال سَبَّح.. ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)﴾ (هود)، ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾ (الكهف).

فهذا هو الحال لسحَرة فرعون في كل العصور، فهل تعي الدرس أيها الفرعون المتجبِّر؟! هل تعي عِظَم فَعلتِك؟ هل تعلم أيها الظالم عِظَم فَعلتك في بناء الله في أرضه؟ ألم تعلم ما ينتظرك من العذاب ما لم تسارع بردِّ المظالم، يقول تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرَّمًا فلا تظَّالموا.." ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ".. ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين".

فقد يرفع المظلوم يديه داعيًا الله أن ينصره ويردَّ الظلم عنه فتصعد دعوته وترجع على شكْل مصيبة يجدها الظالم في نفسه أو أهله أو ماله، فاحذَر أيها الظالم من أن تتركه يستخدم حقَّه فتخسَرَ في الدنيا والآخرة كيف؟! اقرأ هذا الحديث لعلك تصحو من غفلتك.

تخيَّل أيها الظالم هذا الموقف وقد أصبح مصيرك بيد هذا المظلوم، فما هي وسائل استرضائه التي ستستخدمها؟ ألن تكون مستعدًّا للتوسل إليه كما توسَّل إليك في الدنيا؟ ألن تكون ذليلاً بين يديه نادمًا؟ ألن تستخدم كافة عبارات الترجِّي والاسترحام والاستعطاف؟ تخيَّل.. وأجب إن استطعت!!

أيها الظالم.. ألم تمَلَّ يداك الضربَ على وجه المظلوم؟! ما حال يديك إذن؟! أظنها هي الأخرى تتألَّم، ألم تسمع أنَّاته تحت سياطك؟! ألم تشمَّ رائحة جسده تشيط بكهربائك؟!

أراك تتأذَّى لجراحه المتعفِّنة.. لا عليك، لا تنظر لألمِه.. لا تنظر لجرحه.. المهم أنت!! راتبك، عملك، أهلك، لا هو، فهو المشنوق أعلاه..

كل ذنبه أنه مصريٌّ وُلد هنا، شرب الماء الملوَّث وسكت، أكل الطعام المسمَّم وصمت، غَرِق أحباؤه في مياه البحر على سفينة السلام وصمَت، أ

الحاكم ولهان والصولجان

بقلم- عصام عبد الرحمن
كان يا ما كان، في زمن الفلتان، لما مات حاكم البلاد، تم تولّيه رئاسة الصولجان إلى حين اجتماع أهل الحل والعقد- مجلس الصولجان- الذي قرَّر بالإجماع اختيار ولهان حاكمًا للبلاد؛ لأنه يتمتع بصحة جيدة ومتينة، ولأنه لا يعرف شيئًا عن فنون الحكم وألاعيب السياسة إلا العمالة وجمع الثروة الثمينة.

ولما تولى ولهان الحكم اكتشف أن الحاكم الذي قبله كان لصًّا، فأفزعته المفاجأة، وازداد فزعًا حين اكتشف أيضًا أن كل أهل الحل والربط- مجلس الصولجان المزوَّر- لصوص، فقرر أن يصارحهم بكل ما عرف عنهم في الاجتماع الدوري لمجلسهم، ولكنه لما دخل القاعة أصابَه الخجل؛ لأنه لم ينتبه إلى لوحة كبيرة فوق كرسي الرئيس مكتوبًا عليها "يا عزيزي كلنا لصوص"، فتعلم أول درس في حياته الجديدة؛ مما مهَّد له ولأولاده تكوين ثروات عديدة.

وبلا مقدمات بدأ الحاكم ولهان الاجتماع الدوري قائلاً: "يا أبناء اللصوص والهجَّامين، سرقتم كل بيت المال- خزانة الدولة- ولم يبقَ شيء".

قالوا: يا مولانا.. يا ريس.. لا تخف، فكل شيء عندنا محسوب، ولا بركة لنا إلا بك.

قال: كيف؟ والخزانة خاوية ونحن مدينون للجميع بالبلايين؟!

قالوا: لكل عقدة حلّ.. نبيع القطاع العام ومرافق الدولة لسداد الديون.

قال: يا أولاد الـ.. ألا تخافون الله؟!

قالوا: لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين.

اقتنع ولهان بالفكرة، وبدأ في بيع أهم مؤسسات ومرافق البلد، وباع الشركات والمصانع، ومنها محلج القطن، ثم بالعربخانة ثم السلخانة فالشفخانة، إلى أن جاء دور المسجد، فتردَّد قليلاً ولكنه مضى وقرَّر بيع تذاكر دخول للسائحين والسائحات بالشورتات إلى بيوت الله.

ولم يبقَ في المدينة شيءٌ إلا بأجر عدا الهواء، فعاش الشعب فترةً من الزمن في ظلِّ الفقر المدقِع، لا يأكلون إلا الفول المسوَّس وما شابهه من الأغذية الفاسدة، ولا يشربون إلا مياهًا مخلوطةً بمياه الصرف الصحي والكيماويات.. كل هذا بشقِّ الأنفس فقط يتنفَّسون.

فقرَّر الحاكم ولهان بيعَ الهواء للشعب الغلبان، فاعترض أهل الحل والعقد بشدة، وقالوا: من واجبنا إيقاف المهزلة.

قال لهم: لكم الثلث ولي الثلثان.

قالوا: على البركة، ولكن علينا إقناع الناس.

قال: نسميها زكاة الهواء، وهي معروفة في الشرع الحنيف، وشيخنا على ما أقول شهيد.

فقامت وسائل الإعلام تهلل وتقول: قرَّر مولانا الحاكم تطبيق الشريعة الإسلامية وإحياء فريضة زكاة الهواء، على الرجل في كل يوم وليلة جنيهان، وعلى المرأة جنيه، وعلى الطفل نصف جنيه.

وامتنع الناس عن التنفس فماتوا الواحد تلو الآخر، فقرَّر الحاكم ولهان بيع أعضائهم لدول غنية، فعاد أهل الحل والعقد للاحتجاج، وقالوا: لن نوافق إلا بعد تحديد واضح لمعنى الموت، هل هو الموت الحقيقي أم الإكلينيكي؟! فقال الحاكم ولهان: هو الموت الذي يجلب المال!!

وصارت البلد قبلةً للحانوتية وتجَّار الأعضاء، وامتلأت الخزانة بالمال، وانتهت أزمة السكان، فقد خلت البلد من السكان إلا من الحاكم ولهان وأهل بيته، وأهل الحل والربط، والغربان.